وهكذا نكون قد اقتربنا من الثورة الثانية التي هي نتيجة لهذه الأولى، ففي سنة (1789م) حدثت الثورة الفرنسية فأضحت معلماً فاصلاً لا في تاريخ الفكر والأدب فحسب بل في التاريخ عامة.
ومنذ عصر النهضة حتى ظهور الثورة الفرنسية كانت الكلاسيكية هي السائدة على الأدب الأوروبي.
وقيمة الأدب الكلاسيكي تتمثل في مضمونه الأخلاقي والتـزامه المدرسي وحديثه الدائم عما ينبغي أن تكون عليه الحياة.
فالنهايات الكلاسيكية -في المسرحية والملحمة سواء- تأتي دائماً انتصاراً للحق والفضيلة، إنه دعوة إلى الحكمة العملية لكنها لا تخاطب الناس باسم الدين ضرورة، كما أنه كان في جوانب منه لا يهدف إلى أكثر من إعطاء أكبر قدر من المتعة للقارئ، ولو كانت متعة لغوية تقوم على أنواع المحسنات اللفظية وإثبات القدرة على الفذلكة، وكان المسرح من احتكار الطبقة الأرستقراطية -الملوك والنبلاء- تفوح منه روائح العهر والفحش والإباحية وغمزات دائمة للدين ورجاله.
ونتيجة التغييرات الطارئة، وجرياً على سنة التذبذب في التاريخ الأوروبي،تحول الأدب الأوروبي من الكلاسيكية إلى نقيضتها الرومانسية.
والرومانسية هي ارتداد صوفي، ولكن موضوعه ليس الرب كما في رهبانية النصارى بل الطبيعة، وهي لا تهدف إلى التوجيه العقلي للناس عن طريق حكمة القدماء، بل إلى الإشباع العاطفي الذي يجعل الذات محور العالم، إنها مزيج من اليأس الرهباني، والهروب من الواقع الذي كلما تقدمت المعرفة العقلية أظهرت أنه أكثر قتامة وكآبة.
وهكذا كان محورها الدائم هو البؤس -البؤس الديني- كما في الفردوس المفقود أو البؤس العاطفي والنفسي الذي عبر عنه "روسو"!!
فلئن كان الأوروبيون قبل اعتناق النصرانية يعبدون الحجارة والأشجار والحيوان والكواكب، فإن الرومانسية الهاربة من النصرانية قد جمعت هذه الأوثان جميعاً في صنم واحد سمته "الطبيعة"، وجعلت محل التراتيل الكنسية تلك الأشعار الوجدانية التي تتعشق المعبود الجديد، كما فعل رمزها الكبير روسو في "راهب سافوي".
حقاً وجد الفكر الأوروبي في الرومانسية راحة من الكد المنطقي الذي أرهق مفكري عصر النهضة وما بعدها نتيجة البحث العقيم في الكليات والماهيات والعلاقة بين العقل والمادة والتطلع اليائس إلى معرفة كنه الأشياء منطقياً، واستطلاع الميتافيزيقيا أو ما وراء الطبيعة!!
كما وجدوا فيها مهرباً من الالتزام بالمعايير الخلقية عامة، واستطاعوا إحلال المعايير الجمالية المجردة محلها.
كما كانت الرومانسية ملاذاً لأولئك النفر الذين أزعجتهم الحروب القومية والدينية التي لم تهدأ قط، حيث فتحت لهم مجال تعويض الذات القانطة المغتربة في صراع ليس له ما يبرره عندها، كما فعل "همنغواي" في "وداعاً أيها السلاح" بعد حوالي قرنين.